الرجال قوامون على النساء .
منقول من تفسير في ظلال القرآن .
الموضوع الأخير في هذا الدرس ، هو تنظيم مؤسسة الأسرة ؛
وضبط الأمور فيها ؛ وتوزيع الاختصاصات ، وتحديد الواجبات ؛ وبيان الإجراءات التي
تتخذ لضبط أمور هذه المؤسسة ؛ والمحافظة عليها من زعازع الأهواء والخلافات ؛
واتقاء عناصر التهديم فيها والتدمير ، جهد
المستطاع :
الرجال قوامون على النساء ، بما فضل الله بعضهم على بعض
، وبما أنفقوا من أموالهم ، فالصالحات قانتات ، حافظات للغيب بما حفظ الله .
واللاتي تخافون نشوزهن ، فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع ، واضربوهن . فإن أطعنكم
فلا تبغوا عليهن سبيلا . إن الله كان عليًا كبيرًا . وإن خفتم شقاق بينهما ،
فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها ، إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما . إن
الله كان عليمًا خبيرًا . .
ولا بد - قبل الدخول في تفسير هذه النصوص القرآنية ،
وبيان أهدافها النفسية والاجتماعية - من بيان مجمل لنظرة الإسلام إلى مؤسسة الأسرة
، ومنهجه في بنائها والمحافظة عليها ، وأهدافه منها . . بيان مجمل بقدر الإمكان ، إذ أن التفصيل فيه يحتاج إلى بحث مطول خاص :
إن الذي خلق هذا الإنسان جعل من فطرته " الزوجية
" شأنه شأن كل شيء خلقه في هذا الوجود
: ( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) . .
ثم شاء أن يجعل الزوجين في الإنسان شطرين
للنفس الواحدة : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس
واحدة ، وخلق منها زوجها ) . .
وأراد بالتقاء شطري النفس الواحدة - بعد ذلك - فيما أراد
، أن يكون هذا اللقاء سكنًا للنفس ، وهدوءًا للعصب ، وطمأنينة للروح ، وراحة للجسد
. . ثم سترًا وإحصانًا وصينانة . . ثم مزرعة للنسل وامتداد الحياة ، مع ترقيها
المستمر ، في رعاية المحضن الساكن الهادى ء المطمئن
المستور المصون :
( من آياته أن
خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) . .
( هن لباس لكم
وأنتم لباس لهن ) . .
( نساؤكم حرث لكم
فأتوا حرثكم أنى شئتم ، وقدموا لأنفسكم ، واتقوا الله
) . .
( أيها الذين
آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة
) . .
( والذين آمنوا ،
واتبعتهم ذريتهم بإيمان ، ألحقنا بهم ذريتهم ، وما ألتناهم من عملهم من شيء ) . .
ومن تساوي شطري النفس الواحدة في موقفهما من الله ، ومن
تكريمه للإنسان ، كان ذلك التكريم للمرأة ، وتلك المساواة في حقوق الأجر والثواب
عند الله ، وفي حقوق التملك والإرث ، وفي استقلال الشخصية المدنية . . التي تحدثنا
عنها في الصفحات السابقة من هذا الدرس .
ومن أهمية التقاء شطري النفس الواحدة ، لإنشاء مؤسسة
الأسرة . ومن ضخامة
تبعة هذه المؤسسة أولًا : في توفير السكن والطمأنينة
والستر والإحصان للنفس بشطريها ، وثانيًا : في إمداد المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد والترقي . .
. كانت تلك التنظيمات الدقيقة المحكمة التي تتناول كل جزئية من شئون المؤسسة . .
وقد احتوت هذه السورة جانبًا من هذه التنظيمات هو الذي استعرضناه في الصفحات
السابقة من أول هذا الجزء ؛ تكملة لما استعرضناه منها في الجزء الرابع . . واحتوت
سورة البقرة جانبًا آخر ، هو الذي استعرضناه في الجزء الثاني . واحتوت سور أخرى من
القرآن ، وعلى الأخص سورة النور في الجزء الثامن عشر وسورة الأحزاب في الجزءين
الحادي والعشرين والثاني والعشرين وسورة الطلاق وسورة التحريم في الجزء الثامن
والعشرين . . ومواضع أخرى متفرقة في السور ، جوانب أخرى تؤلف دستورًا كاملًا
شاملًا دقيقًا لنظام هذه المؤسسة الإنسانية ؛ وتدل بكثرتها وتنوعها ودقتها وشمولها
، على مدى الأهمية التي يعقدها المنهج الإسلامي للحياة الإنسانية على مؤسسة الأسرة
الخطيرة !
ونرجو أن يكون قارى ء هذه الصفحة على ذكر مما سبق في
صفحات هذا الجزء نفسه ؛ عن طفولة الطفل الإنساني ، وطولها ، وحاجته في خلالها إلى
بيئة تحميه أولًا حتى يستطيع أن يكسب رزقه للمعاش ؛ وأهم من هذا أن تؤهله ،
بالتربية ، إلى وظيفته الاجتماعية ؛ والنهوض بنصيبه في ترقية المجتمع الإنساني ،
وتركه خيرًا مما تسلمه ، حين جاء إليه ! فهذا الكلام ذو أهمية خاصة في بيان قيمة
مؤسسة الأسرة ؛ ونظرة المنهج الإسلامي إلى وظائفها ، والغاية منها ؛ واهتمامه
بصيانتها ، وحياطتها من كل عوامل التدمير من قريب ومن بعيد
. .
وفي ظل هذه الإشارات المجملة إلى طبيعة نظرة الإسلام
للأسرة وأهميتها ؛ ومدى حرصه على توفير ضمانات البقاء والاستقرار والهدوء في جوها
. . إلى جانب ما أوردناه من تكريم هذا المنهج للمرأة ؛ ومنحها استقلال الشخصية
واحترامها ؛ والحقوق التي أنشأها لها إنشاء - لا محاباة لذاتها ولكن لتحقيق أهدافه
الكبرى من تكريم الإنسان كله ورفع الحياة الإنسانية - نستطيع أن نتحدث عن النص
الأخير في هذا الدرس ، الذي قدمنا للحديث عنه
بهذا الإيضاح :
إن هذا النص - في سبيل تنظيم المؤسسة الزوجية وتوضيح
الاختصاصات التنظيمية فيها لمنع الاحتكاك فيها بين أفرادها ، بردهم جميعًا إلى حكم
الله لا حكم الهوى والانفعالات والشخصيات - يحدد أن القوامة في هذه المؤسسة للرجل
؛ ويذكر من أسباب هذه القوامة : تفضيل الله للرجل بمقومات القوامة ، وما تتطلبه من خصائص
ودربة ، و . . تكليف الرجل الإنفاق على المؤسسة . وبناء على إعطاء القوامة للرجل ،
يحدد كذلك اختصاصات هذه القوامة في صيانة المؤسسة من التفسخ ؛ وحمايتها من النزوات
العارضة ؛ وطريقة علاج هذه النزوات - حين تعرض - في حدود مرسومة - وأخيرًا يبين
الإجراءات - الخارجية - التي تتخذ عندما تفشلالاجراءات الداخلية ، ويلوح شبح الخطر
على المؤسسة ، التي لا تضم شطري النفس الواحدة فحسب ، ولكن تضم الفراخ الخضر ،
الناشئة في المحضن . المعرضة للبوار والدمار . فلننظر فيما وراء كل إجراء من هذه
الإجراءات من ضرورة ، ومن حكمة ، بقدر ما نستطيع :
( الرجال قوامون
على النساء . بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم )
إن الأسرة - كما قلنا - هي المؤسسة الأولى في الحياة
الإنسانية . الأولى من ناحية أنها نقطة البدء التي تؤثر في كل مراحل الطريق .
والأولى من ناحية الأهمية لأنها تزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني ، وهو أكرم
عناصر هذا الكون ، في التصور الإسلامي .
وإذا كانت المؤسسات الأخرى الأقل شأنًا ، والأرخص سعرًا
: كالمؤسسات المالية والصناعية والتجارية . . وما إليها .
. لا يوكل أمرها - عادة - إلا لأكفأ المرشحين لها ؛ ممن تخصصوا في هذا الفرع
علميًا ، ودربوا عليه عمليًا ، فوق ما وهبوا من استعدادات طبيعية للإدارة والقوامة
. .
إذا كان هذا هو الشأن في المؤسسات الأقل شأنًا والأرخص
سعرًا . . فأولى أن تتبع هذه القاعدة في مؤسسة الأسرة ، التي تنشئ
أثمن عناصر الكون . . العنصر الإنساني . .
والمنهج الرباني يراعي هذا . ويراعي به الفطرة ،
والاستعدادات الموهوبة لشطري النفس لأداء الوظائف المنوطة بكل منهما وفق هذه
الاستعدادات ، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري النفس الواحدة
والعدالة في اختصاص كل منهما بنوع الأعباء المهيأ لها ، المعان عليها من فطرته
واستعداداته المتميزه المتفردة . .
والمسلم به ابتداء أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله
. وأن الله - سبحانه - لا يريد أن يظلم أحدًا من خلقه ، وهو يهيئه ويعده لوظيفة
خاصة ، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة !
وقد خلق الله الناس ذكرًا وأنثى . . زوجين على أساس
القاعدة الكلية في بناء هذا الكون . . وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع
وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل . . وهي وظائف ضخمة أولًا وخطيرة ثانيًا .
وليست هينة ولا يسيرة ، بحيث تؤدى بدون إعداد عضوي ونفسي وعقلي عميق غائر في كيان
الأنثى ! فكان عدلًا كذلك أن ينوط بالشطر الثاني - الرجل - توفير الحاجات الضرورية
. وتوفير الحماية كذلك للأنثى ؛ كي تتفرغ لوظيفتها الخطيرة ؛ ولا يحمل عليها أن
تحمل وتضع وترضع وتكفل . . ثم تعمل وتكد وتسهر لحماية نفسها وطفلها في آن واحد !
وكان عدلًا كذلك أن يمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضوي والعصبي والعقلي
والنفسي ما يعينه على أداء وظائفه هذه . وأن تمنح المرأة في تكوينها العضوي
والعصبي والعقلي والنفسي ما يعينها على أداء وظيفتها تلك .
وكان هذا فعلا . . ولا يظلم ربك أحدًا
. .
ومن ثم زودت المرأة - فيما زودت به من الخصائص - بالرقة
والعطف ، وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة - بغير وعي ولا سابق
تفكير - لأن الضرورات الإنسانية العميقة كلها - حتى في الفرد الواحد - لم تترك
لأرجحة الوعي والتفكير وبطئه ، بل جعلت الاستجابة لها غير إرادية ! لتسهل تلبيتها
فورًا وفيما يشبه أن يكون قسرًا . ولكنه قسر داخلي غير مفروض من الخارج ؛ ولذيذ
ومستحب في معظم الأحيان كذلك ، لتكوين الاستجابة سريعة من جهة ومريحة من جهة أخرى
- مهما يكن فيها من المشقة والتضحية ! صنع الله الذي أتقن كل شيء
.
وهذه الخصائص ليست سطحية . بل هي غائرة في التكوين
العضوي والعصبي والعقلي والنفسي للمرأة . . بل يقول كبار العلماء المختصين : إنها غائرة في تكوين كل خلية . لأنها عميقة في تكوين
الخلية الأولى ، التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين ، بكل خصائصه الأساسية
!
وكذلك زود الرجل - فيما زود به من الخصائص - بالخشومنة
والصلابة ، وبطء الانفعال والاستجابة ؛ واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة
والاستجابة . لأن وظائفه كلها من أول الصيد الذي كان يمارسه في أول عهده بالحياة
إلى القتال الذي يمارسه دائمًا لحماية الزوج والأطفال . إلى تدبير المعاش . . إلى
سائر تكاليفه في الحياة . . لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام
؛ وإعمال الفكر ، والبطء في الاستجابة بوجه عام ! . . وكلها عميقة في تكوينه عمق
خصائص المرأة في تكوينها . .
وهذه الخصائص تجعله أقدر على القوامة ، وأفضل في مجالها
. . كما أن تكليفه بالإنفاق - وهو فرع من توزيع الاختصاصات - يجعله بدوره أولى
بالقوامة ، لأن تدبير المعاش للمؤسسة ومن فيها داخل في هذه القوامة ؛ والإشراف على
تصريف المال فيها أقرب إلى طبيعة وظيفته فيها . .
وهذان هما العنصران اللذان أبرزهما النص القرآني ، وهو
يقرر قوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي . قوامة لها أسبابها من التكوين
والاستعداد . ولها أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات . ولها أسبابها من
العدالة في التوزيع من ناحية ؛ وتكليف كل شطر - في هذا التوزيع - بالجانب الميسر
له ، والذي هو معان عليه من الفطرة .
وأفضليته في مكانها . . في الاستعداد للقوامة والدربة
عليها . . والنهوض بها بأسبابها . . لأن المؤسسة لا تسير بلا قوامة - كسائر
المؤسسات الأقل شأنًا والأرخص سعرًا - ولأن أحد شطري النفس البشرية مهيأ لها ،
معان عليها ، مكلف تكاليفها . وأحد الشطرين غير مهيأ لها ، ولا معان عليها . . ومن
الظلم أن يحملها ويحمل تكاليفها إلى جانب أعبائه الأخرى . . وإذا هو هيء لها
بالاستعدادات الكامنة ، ودرب عليها بالتدريب العلمي والعملي ، فسد استعداده للقيام
بالوظيفة الأخرى . . وظيفة الأمومة . . لأن لها هي الأخرى مقتضياتها واستعداداتها
. وفي مقدمتها سرعة الانفعال ، وقرب الاستجابة . فوق الاستعدادات الغائرة في
التكوين العضوي والعصبي ؛ وآثارها في السلوك والاسجابة !
إنها مسائل خطيرة . . أخطر من أن تتحكم فيها أهواء البشر
. . وأخطر من أن تترك لهم يخبطون فيها خبط عشواء . . وحين تركت لهم ولأهوائهم في
الجاهليات القديمة والجاهليات الحديثة ، هددت البشرية تهديدًا خطيرًا في وجودها
ذاته ؛ وفي بقاء الخصائص الإنسانية ، التي تقوم بها الحياة الإنسانية وتتميز
.
ولعل من الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها
وتحكمها ؛ ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان ، حتى وهم ينكرونها ويرفضونها
ويتنكرون لها .
لعل من هذه الدلائل ما أصاب الحياة البشرية من تخبط
وفساد ، ومن تدهور وانهيار ؛ ومن تهديد بالدمار والبوار ، في كل مرة خولفت فيها
هذه القاعدة . فاهتزت سلطة القوامة في الأسرة . أو اختلطت معالمها . أو شذت عن
قاعدتها الفطرية الأصلية !
لعل من هذه الدلائل توقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه
القوامة على أصلها الفطري في الأسرة . وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلة
السعادة ؛ عندما تعيش مع رجل ، لا يزاول مهام القوامة ؛ وتنقصه صفاتها اللازمة ؛
فيكل إليها هي القوامة ! وهي حقيقة ملحوظة تسلم بها حتى المنحرفات الخابطات في
الظلام !
ولعل من هذه الدلائل أن الأطفال - الذين ينشأون في مؤسسة
عائلية القوامة فيها ليست للأب . إما لأنهضعيف الشخصية ، بحيث تبرز عليه شخصية
الأم وتسيطر . وإما لأنه
مفقود : لوفاته - أو لعدم وجود أب
شرعي ! - قلما ينشأون أسوياء . وقل ألا ينحرفوا إلى شذوذ ما ، في تكوينهم العصبي
والنفسي ، وفي سلوكهم العملي والخلقي .
فهذه كلها بعض الدلائل ، التي تشير بها الفطرة إلى
وجودها وتحكمها ، ووجود قوانينها المتحكمة في بني الإنسان ، حتى وهم ينكرونها
ويرفضونها ويتنكرون لها !
ولا نستطيع أن نستطرد أكثر من هذا - في سياق الظلال - عن
قوامة الرجال ومقوماتها ومبرراتها ، وضرورياتها وفطريتها كذلك
. . ولكن ينبغي أن نقول : إن هذه القوامة ليس من شأنها إلغاء شخصية المرأة في
البيت ولا في المجتمع الإنساني ؛ ولا إلغاء وضعها "
المدني " - كما بينا ذلك من قبل -
وإنما هي وظيفة - داخل كيان الأسرة لإدارة هذه المؤسسة الخطيرة ، وصيانتها وحمايتها
: ووجود القيم في مؤسسة ما ، لا يلغي وجود ولا شخصية ولا
حقوق الشركاء فيها ، والعاملين في وظائفها . فقد حدد الإسلام في مواضع أخرى صفة
قوامة الرجل وما يصاحبها من عطف ورعاية ، وصيانة وحماية ، وتكاليف في نفسه وماله ،
وآداب في سلوكه مع زوجه وعياله .
تعليقات
إرسال تعليق